
الطريق من الأرض إلى السماء
في قرية صغيرة على ضفاف بحيرة لوفن بالسويد، عاش الضابط العجوز برنكرتز في غرفتين متواضعتين في الطابق العلوي من بيت ريفي. كان قد قضى عمره جندياً في حروب نابليون، والآن يعيش وحيداً بلا خادم، يخدم نفسه بنفسه، ويمضي وقته في صناعة بساط ضخم مده خيوطه بين جدران الغرفة كنسيج عنكبوت. كان هذا البساط شاغل أهل القرية جميعاً، لكنه لم يكتمل أبداً، إذ لم ينه منه سوى مربعين فقط بعد سنوات طويلة.
اللقاء مع الموت
في إحدى ليالي الصيف، وبينما كان برنكرتز يغط في نومه، استيقظ فجأة على وقع خطوات ثقيلة تصعد السلم. بدت كأنها خطوات جندي قديم. اعتقد أولاً أنه فلاح نسي الباب مفتوحاً، لكن الصوت توقف عند باب غرفته. ثم سمع صوت المفتاح يدور في القفل، رغم أنه أغلقه جيداً.
وفجأة، انفتح الباب، وظهر رجل غريب تقدّم بخطوات عسكرية، حيّاه بتحية الجنود، وقال بصوت عميق يشبه نغمة الأرغن:
– أنا الموت.
لم يرتعب الضابط، بل شق صدره قائلاً:
– تعال إذن، وأسرع بعملك.
لكن الموت أجابه بهدوء:
– سأعود قبل منتصف الليلة القادمة.
ثم خرج كما دخل، واختفى صوته شيئاً فشيئاً في أزقة القرية.
الاستعداد لليوم الأخير
أدرك برنكرتز أن أمامه يوماً واحداً فقط. نهض من فراشه، حلق لحيته، سرّح شعره الأبيض، وارتدى أفضل ثيابه. جلس إلى مكتبه يكتب وصيته، رتب حساباته، ووهب معظم أثاثه لطفلة من القرية كانت تحبه وتلازمه كثيراً. ثم طلب أن يُقتل جواده العجوز بالرصاص ويُكرَّم من يطلق النار عليه بكأس فضي.
كان كل شيء مرتباً، فقرر أن يقضي يومه الأخير في متعة خاصة. خرج من القرية، وصل إلى مفترق خمس طرق، وبدأ يتساءل:
هل يذهب إلى كارلستاد ليلتقي أصدقاءه ويقضوا الليل في لعب الورق؟
أم إلى تروسناس حيث الجنود الشباب في معسكر المشاة ليستقبلوه بتحية عسكرية؟
أم إلى السيدة النبيلة التي كانت حباً قديماً في شبابه؟
أم إلى أكبي حيث الذكريات مع رفاق الخيالة والرقص والموسيقى؟
لكن قلبه قاده إلى طريق آخر… إلى ضيعة صغيرة يقطنها موسيقي عجوز يدعى ليلجيرونا، بارع في العزف على الكمان
الطريق إلى السماء
وصل برنكرتز عند الغروب إلى بيت ليلجيرونا. استقبله الأخير بحرارة، ثم أمسك بالكمان يعزف له ألحاناً حزينة عميقة. وبينما كان الضابط ينصت، شعر أن الموسيقى ليست من هذا العالم، بل هي اللغة التي تصل بين الأرض والسماء
قال برنكرتز لصديقه:
– الموسيقى غريبة… إنها لا تخص الأرض وحدها، بل هي لغة السماء أيضاً. إنها الطريق بين العالمين
طلب منه أن يعزف أكثر، وكأن الأوتار تمهّد له عبور الرحلة الأخيرة. عزف ليلجيرونا بكل ما يملك من قوة وإحساس، بينما الضابط يجلس منصتاً بطمأنينة، حتى فجأة تهالك وسقط أرضاً
حمله صديقه إلى الفراش، ففتح الضابط عينيه بصوت متهدّج وقال:
– لا تخف… ما بي من بأس. إني أجوز الآن الطريق بين الأرض والسماء… أشكرك يا أخي
وبعد ساعات قليلة، صعدت روحه بهدوء، تاركاً خلفه بساطاً لم يكتمل، وحكاية خالدة عن إنسان ودّع الدنيا على أنغام الموسيقى، وجعل من يومه الأخير احتفالاً بعبور أبدي