من يرحمهم؟
في السودان، حيث تمتد الأرض من النيل إلى آخر خيط من الرمال، تنبض حياةٌ كانت يومًا مليئة بالحركة والطمأنينة. لكن في ظل الصراع الذي طال واستطال، أصبح الوجه الآخر للحياة هو الألم، وأصبح السؤال الذي يتردّد في صدور الناس أكثر من أي حديثٍ آخر: من يرحم الضعفاء؟
ليس الضعف عيبًا، لكنه صفة الإنسان حين تُغلق في وجهه الأبواب. والضعفاء اليوم هم الأطفال الذين لا يعرفون لماذا توقفت مدارسهم، ولماذا يسمعون أصوات الانفجار بدلًا من أجراس الطابور الصباحي. هم الذين يغطون آذانهم خوفًا، ثم ينامون على بطون خاوية في خيام من قماش لا يصدّ برد الليل ولا حر النهار.
وهم النساء اللواتي يحملن أثقال الدنيا فوق أكتافهن، يسعين من مخيمٍ إلى آخر، ومن مركز إغاثة إلى صفٍ ممتد لا يعرف النهاية. هن من يجمعن فتات الطعام وكسرة الخبز، ليصنعن منه وجبة يسمينها “عشاء”، وهن من يحملن صبرًا ينوء به الحديد.
وهم كبار السن، الذين كانوا يروون أيامهم الماضية بفخر، فإذا بهم اليوم يتهامسون بالدعاء في صمت، لا يطلبون إلا ما كان يومًا بديهيًا: مكان هادئ، دواء يخفف ألم العظام، ويدًا تمسك بيدهم حتى لا يشعروا أنهم وحدهم.
ثم هناك الفقراء الذين كانوا فقراء قبل الحرب، فكيف بهم بعدها؟
من لا يملك شيئًا ماذا يبقى له حين يُسرق منه حتى ما لم يكن يملك؟
ليسوا أرقامًا
قد تذكرهم التقارير كأعداد:
عشرة آلاف نازح هنا، مئة ألف هناك.
لكنهم ليسوا أرقامًا.
كل رقم إنسان.
له اسم.
له ذكريات.
له حلمٌ كان ينتظر أن يكبر معه.
الطفل الذي تحمله الإحصائية في السطر الرابع عشر، كان يريد أن يصبح مهندسًا.
المرأة التي تُحسب “حالة” في نشرةٍ مسائية، كانت تحيك الثياب لتجهّز بها مهر ابنتها.
والشيخ الذي يُكتب عنه “نزح”، كان يؤذن في المسجد منذ أربعين عامًا.
الرحمة ليست كلمة
الرحمة ليست منشورًا على وسائل التواصل.
وليست دمعة في مقطع فيديو.
الرحمة فعل.
الرحمة أن تسأل عن جارك.
أن تقتسم ما تملك.
أن تقدم الدواء لمن يحتاجه، أو الماء لمن عطش، أو الكلمة الطيبة لمن انهار قلبه قبل جسده.
إن السودان لن يُشفى بالقوة وحدها، ولن ينهض بالسلاح، ولن تستقر أرضه إلا حين يعود الناس لبعضهم قلوبًا قبل الأيادي.
ومن يرحمهم؟
يرحمهم الله أولًا.
لكن الله جعل الرحمة عملًا يجري على يد الإنسان.
فليكن كل واحدٍ منا يدًا رحيمة،
ولنذكّر أنفسنا أن القوة الحقيقية ليست في الغلبة،
بل في القدرة على أن نكون آدميين…
مهما اشتدّت المحنة.













